رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الخامس والخمسون

رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل الخامس والخمسون

شهد شاهدٌ على مصرعِ قلوب
قال أقسم بخالقي إنها من الألمِ تذوب
وتحدث والعين فائضة بالدموع
يا ليت قلبي للعالمين رسول
ينذر بشر آتى رأوه جنة وهو يرمقهم بوجه عبوس.
فتحطمت قلوبهم لأتجرع أنا كأس يا ليت.

زيارة غير متوقعة أخفى منصور خلفها نواياه الخبيثة تجاه عيسى، اصطحب ابنه وأتى لمنزل نصران ليزور ابنه الذي نجا من حادث سير مروع، تحقق ما لم يتمن منصور أبدا، كانت جلسة عادية حتى نزل لهم من قدما لأجله، ما إن لمحه منصور على الدرج حتى قال: نزلت ليه بس وتعبت نفسك.

لم يرد عيسى، تحرك بهدوء ليجلس بين والده و طاهر، استمع إلى باقي حديث ضيفه المنافق: احنا والله كنا عايزين نيجي من ساعة ما طلعت، بس الحاج بقى قالوا إنه مانع الزيارة، أول ما عرفت إنه سمح بيها جيت أهو.
رد عليه عيسى بابتسامة: واجبك واصل.
تحدث جابر أخيرًا بعد أن نبهه والده: ألف سلامة عليك.
الله يسلمك يا جابر، بس مقولتش يا حاج منصور، كنت هتيجي تزورني بنفسك ولا زي عادتك هتبعت اللي يخلص أوام أوام.

قال عيسى هذا باستهتار رد عليه منصور بتصنع الجهل: يخلص إيه؟
ثم استدار منصور يسأل جابر: أنت فاهم حاجة من كلامه يا بني.
استوقفه عيسى سائلا باستنكار مصطتنع: ابني؟
سأل هذا السؤال؟، ثم علت ضحكاته الرنانة في المكان، ضحكات قابلها نظرات خائفة من منصور، نظرات مذهولة من السؤال الذي يحمل أكثر من معنى ولكن المعنى الأكثر خطورة بينهم هو أنه يعلم شيء سيتسبب في افتضاح أمره وأوحى عيسى بهذا أكثر حين سأل: إيه ابنك دي؟

حينها فقط طالعهما جابر بريبة، سؤال عيسى هذا نجح وبجدارة في أن يتسبب في توتر الأجواء، سأل جابر بريبة: هو في إيه؟
رفع عيسى كتفيه ببراءة وهو يطالع منصور بنظرة شامتة وقد أنعشه انقلاب وجه قاتل والدته رأسا على عقب: لا مفيش، أصل الحاج منصور مكانش بيقول ابني دي، كان بينده بالأسامي علطول، فوداني استغربتها ولا أنا اللي بيتهيألي؟

ثم ابتسم عيسى وتابع: ولا أنت بقى يا حاج منصور بتقلد أبويا علشان هو اللي أغلب الوقت بيقول ابني بدل اسامينا.
رد عليه منصور مجاهدًا للحفاظ على ما تبقى من ثباته: وماله لما نقلد الحاج نصران في الحلو، ما هو بيقولها للي ابنه واللي مش ابنه.
عبارة ملتوية قالها ووصلت لطاهر، لم يرد عليها بل تفنن في أن يقتلها حين قام ثم مال على كف نصران مقبلا وقال: أنا هستأذن يا بابا علشان هودي يزيد التمرين.

ابتسم له نصران وربت على كتفه مرددا: روح يا حبيب أبوك، وأنا لو احتاجت حاجة هطلبك.
منظرهما هذا جعل جابر يضحك بسخرية ويهمس لوالده: مش كفاية كده بقى ولا إيه؟، نقوم نمشي أحسن.
طالع منصور عيسى بتوتر، بانت الريبة في عينيه قبل أن يستقيم واقفًا بمساعدة ابنه وهو يقول: هنستأذن يا حاج نصران.
كان نصران جافًا في تعامله معه وحين تيقن من انصرافهما أوقف عيسى سائلا: كنت عند هادية بتعمل ايه؟

استدار عيسى يجاوبه بهدوء: بعمل اللي كنت هتروح بكرا تعمله، روحت وعرضت على ملك ترجع وقالت لا.
فعلق والده على هذا بحدة: وأنت إيه ظروفك؟، شايفك عادي يعني
ما هو عادي فعلا، مش هروح أجرجرها وأقولها ارجعي، كل واحد ينام على الجنب اللي يريحه.
أنهى قوله وأتى ليغادر ولكن استدار حين تذكر: بقولك صحيح يا حاج، قول لتيسير تعملنا مسقعة النهاردة، نفسي رايحالها أوي.

ظنت رفيدة حين سمعت قوله هذا وهي تنزل من أعلى أنه عاد لزوجته فسألت بفرح: هو أنت وملك رجعتوا؟
هز رأسه نافيا وغادر بهدوء وسط ذهولها من حالته هذه وكأن كل شيء بخير فسألت والدها بغيظ: هو إيه ده يا بابا، هو مش زعلان على ملك ولا إيه، ومسقعة إيه دي اللي نفسه رايحالها.
سيبيه براحته يا رفيدة.
قالها نصران بهدوء قبل أن يذهب هو الاخر إلى مكتبه ويتركها وحدها في الردهة يدور في رأسها عشرات الأسئلة.

أصبح التواجد هنا عبأ عليه، إحضار يزيد إلى التمرينات لم يعد سهلا كالسابق خاصة وهو معرض أن يقابلها في أي لحظة، التقى طاهر بمدرب ابنه وحياه الأخير قائلا: أهلا يا كابتن طاهر.
ابتسم له طاهر قبل أن يرد: أهلا بحضرتك، معلش أنا عارف إن يزيد الفترة الأخيرة مش منتظم بس كان في ظروف.
ولا يهمك يا كابتن
قال المدرب جملته هذه ثم أخذ بيد الصغير قائلا: يلا يا زيزو.

لوح يزيد لوالده الذي لوح له أيضا قبل أن يذهب مع مدربه، ثم جلس يتابع ابنه قبل أن تهاتفه شهد، ضحك ورد عليها سائلا: خير يا أنسة متدنية.
لم تكن في حالتها العادية، بان في صوتها ضيقها وحزنها وهي تقول: طاهر هو أنا ممكن أشوفك.
تسببت في قلقه وسألها باهتمام: مالك يا شهد؟
متضايقة ومخنوقة أوي، أنا عارفة إنك مشغول النهاردة، فضيلي نفسك بكرا ونخرج.

قبل أن يجاوبها حضرت جويرية ابنة زوجته السابقة التي احتضنته على غفلة منه تصيح بمرح: بابي.
وقبل أن يرد أتت خلفها فريدة وقالت بابتسامة: أهلا يا كابتن حظنا حلو شوفناك النهارده.
أعطاها ابتسامة متوترة وهو يكمل مكالمته: شهد معايا؟
ردت عليه بسخرية: اه معاك، قولي أنت بقى مين معاك، دي فريدة وبنتها مش كده؟
وكان رده: أنا هجيلك النهارده بالليل يا شهد إن شاء الله، تحبي أجيلك دلوقتي واتصل بحسن يجي هو ليزيد؟

أرضاها رده وضايق الجالسة جواره فابتسمت شهد على الرغم من ضيقها وقالت: ماشي يا طاهر، هعديهالك لغاية ما أشوفك.
ضحك ثم أغلق المكالمة معها، حينها سألت فريدة: أخبار يزيد إيه؟
بخير الحمد لله
فعلقت على رده متسائلة: أنا قلقت عليه لما غاب عن التمرين الفترة اللي فاتت.
رد عليها بهدوء: لا احنا كويسين الحمد لله، أنا كنت مشغول بس شوية.
عرضت عليه بلطف: لو تحب أنا ممكن ابقى أعدي أخده.

ضحك قبل أن يعلق على قولها: بصراحة يا فريدة أنا مستغربك جدا، هو على ما أتذكر إن سبب الطلاق كان إنك عايزانى أسيب يزيد لماما، فجأة أمره بقى يهمك؟
ردت مسرعة تدافع عن نفسها: طبعا أمره يهمني، أنا كنت بطلب بس إن…
قاطعها قائلا بملل: ملهوش لزوم، احنا مش جايين نتعاتب.
قال هذا وعاد للصمت ومتابعة ابنه تحت نظراتها التي طغى عليها الضيق.

أتى لتقديم واجب العزاء، وبعبارة صريحة أكثر أتى لعله يراها، كان هذا غرض باسم حين حضر إلى منزل ثروت، ولحظه العثر لم يجدها، قرر المغادرة سريعا ولم يكن يعلم باسم أثناء خروجه أنه سيلاقيها عائدة للتو من الخارج عند البوابة، أشارت له فتوقف بسيارته واقتربت هي تسأله: ممكن خمس دقايق من وقتك؟

رحب بذلك ودخلت هي لسيارته بعد عرضه عليها وقالت بهدوء عكس العاصفة بداخلها: أنا حياتي متلغبطة أوي يا باسم، كل اللي بيحصل ده مش فاهماه، وكنت عايزة حد اتكلم معاه وحتى ده مش لاقياه، ممكن أتكلم معاك ومتعاتبنيش على أي حاجة فاتت ولا تخليني أندم على ده؟
تنهد بحيرة قبل أن يجاوبها بعد أن رأى حالتها هذه: ماشي يا ندى، شوفي أي وقت وابعتيلي ونخرج.

ثم طلب هاتفها فأعطته له، سجل رقمه وأكمل: ده رقمي علشان غيرت القديم، ابقي كلميني.
مد الهاتف لها فلم تأخذه بل احتضنت كفه الذي يقبض عليه وهي تكرر برجاء: علشان خاطري منفتحش في أي قديم.
بالغ في قربه منها وأدركت هي خطورة الوضع فأتت لتبتعد ولكن منعها حين حاوطها سائلا: ليه أنا؟
باسم مينفعش كده، ابعد.

سيارته المتوقفة هنا هذه ستمكن أي أحد من رؤيتهما بسهولة، أبطل حجتها حين أغلق زجاج السيارة، وكرر السؤال للمرة الثانية: أنا ليه يا ندى؟
توترت من اقترابه وهربت بعينيها منه، حتى الإجابة فرت منها ولم تستطع إلا أن تقول: معرفش، وعلشان خاطري ابعد.
طالعته أخيرا، وكأن نظراته ساحر ماهر مارس فنه عليها، وقال هو: هبعد حاضر، بس هسأل السؤال ده في وقت تاني وساعتها مش هتنازل عن إني أسمع إجابته.

ابتعد عنها، وظلت هي على حالها في مكانها شاردة حتى علق بتهكم: أنا بعدت على فكرة، بس أنتِ اللي شكلك حابة الموضوع.
فاقت من شرودها وطالعته بانزعاج قبل أن تترك له السيارة وهي تهتف بحنق: أنا اللي غلطانة.
ابتسم بهدوء وهو يقود للمغادرة، ولم تستطع منع نفسها من التفاتة تلمح أثره فيها.

انفرد عيسى بنفسه في غرفته، دخلها أخيرًا، لم يستطع دخولها منذ أن انفصل عنها، طالع كل إنش فيها بهدوء، أصبحت خاوية كئيبة وباردة جدا بدونها، أصبحت تعصف به، لم يستطع البقاء بها أكثر فخرج وتوجه إلى غرفة خالته، ما إن دخل حتى لمح العتاب في نظراتها، لم يهتم فقط توجه ليجلس جوارها وقد أسند رأسه على كتفها، لحظات من الصمت قطعها قولها: أنا أسفة.

طالعها متصنعًا الاستغراب فتابعت: أسفة لو كنت سبب للي أنت فيه يا أغلى الناس على قلبي.
ضحك وسألها: هو أنا بشد في شعري ولا إيه؟، إيه اللي أنا فيه، ما أنا زي الفل أهو.
متكدبش على نفسك، طلع اللي جواك علشان متتعبش أكتر.
كانت هذه نصيحتها له وكان رده: أنا معرفش أصلا إيه اللي جوايا، خلاص عادي كل حاجة بقت عادي.

ثم ضرب على كتف خالته بخفة ممازحًا: متقلبيهاش دراما بقى، ودموع وتقطيع شاريين على اللبن المسكوب، أنا جاي أقعد معاكي تشوفيلنا فيلم حلو نتفرج عليه، هتنكدي هقوم خالص.
ضحكت ثم هزت رأسها موافقة فقال هو: هنزل أعمل حاجة وأطلع تكوني شغلتي الفيلم.

تركها ونزل، قرر التوجه إلى مكتب والده، السؤال عن متى سيصرح له بفعل ما يريد ويفك القيود التي لا يريد عيسى إلا أن يحترمها، دق على الباب أولا وحين لم يأت رد دخل إلى المكتب فلم يجده، كان سيخرج ولكن لفت انتباهه هاتف والده الذي أضاء باسم رزان، ابتسم بمكر وقد أدرك أن والده يضع عين له في منزل منصور، لا يعلم الاتفاف بينهما، ولكن هذا ظاهر بوضوح، فكر في الرد ولكن رجح ألا يفعل ذلك، ولم يخسر شيء لأنها لم تتمهل بل أرسلت رسالة وهذه لم يستطع منع نفسه من معرفة محتواها، فتحها ليجد: معلش يا حاج أنا مش هعرف ابعتلك حاجة تاني خالص، منصور بقت عينه عليا ومبيعفلش لحظة، ولو طال هياخد مني التليفون خالص، مش عايزاك تزعل، وخلي بالك من طاهر علشان الظاهر كده إنه بيدبرله حاجة على تقيل.

مجرد قراءة الرسالة هذه أتلفت أعصابه، وضع الهاتف قبل أن يتصرف برعونة ويلقيه، وأثناء ذلك دخلت
سهام، استغربت من تواجده هنا بمفرده وسألت: في حاجة يا عيسى؟
بادل السؤال بآخر وهو يقول: طاهر فين؟
كان مع يزيد في التمرين ولسه راجعين.
أتى ليخرج ولكن اعترضت سهام طريقه سائلة: هو حصل حاجة؟
حاول تخطيها بهدوء ولكن أبت وهي تلح بإصرار: رد عليا، أنا مش نكرة علشان تتجاهلني كده.
تأفف بانزعاج ثم قال: لما اسمعك هبقى أرد.

نطق بهذا ثم تخطاها نحو الخارج، صعد إلى غرفة خالته واختار المكوث فيها حتى الليل وقطع جلسته معها دخول شقيقته و يزيد فأردف بغيظ: يا مساء الزن.
جلس يزيد جوار ميرت، ورفيدة جوار شقيقها، كانت تطالعه بهدوء حتى تجرأت أخيرا لقول: عيسى تحب أروح أكلمها؟
تناول زجاجة مشروبه الموضوعة على الطاولة وتساءل بتصنع الجهل: هي مين؟
هو أنت بجد مش فارق معاك؟، أنا مش مصدقاك.

صمت، لا بديل بالنسبة له سوى الصمت، تصنع انشغاله بالفيلم هربًا من كل الأسئلة ولم تفشل الطريقة أبدا، ظل هكذا حتى حل المساء لم يكن في قراره أن يأتي أحد معه، ولكن أوامر والده قد صدرت بألا يتخلى حسن عن مرافقته، ولكن عند نقطة محددة قال له بانزعاج: أنا هدخل لوحدي.
كان حسن قد توقف بالسيارة أمام منزل منصور وحاول ردع شقيقه بقوله: أبوك لو عرف إننا هنا مش هيحصل طيب.

خليك جدع يا حسن، مفيش حاجة متقلقش، خمس دقايق وهطلع.
رأي حسن إلحاحه فاستجاب له، دق عيسى على البوابة وسمحت له إحدى العاملات بالدخول، اصطحبته إلى غرفة المكتب الخاصة بمنصور، دخل بخطوات واثقة، كانت نظرات منصور تقول الكثير، وما إن انصرفت العاملة حتى قال: خير؟
جيتلك أشوفك مش عايز تبطل قلة أصل ليه؟
داهمه عيسى بقوله هذا، القول الذي جعل منصور يسأل بتهكم ساخرًا: ده اللعب على المكشوف بقى!

ابتسم عيسى قبل أن يرد عليه مردفًا: هو أنا مقولتلكش؟، أنا مبلعبش غير على المكشوف، بس لما بشوف الملاوع بحب أخليه يجيب أخره.

قال قوله هذا ثم أخذ ثمرة تفاح من الطبق الموضوع على الطاولة، تناول السكينة حتى يقطعها وبغتة داهم منصور بها يضعها على عنقه، شحب وجه منصور وهو يطالعه بذهول بينما عيسى يقول وهو ينظر له: كنت باعت اللي يخلص عليا في المستشفى مش كده؟، تخيل تعمل المصايب دي كلها وتبقى مفكر مفيش منك ولا حد قدك وتموت في الآخر بسكينة الفاكهة.
ضحك ثم أكمل: والله حتى خسارة فيك.

أبعدها عنه واستجمع منصور نفسه جاهدًا ليقول: اطلع برا.
هز عيسى رأسه موافقًا وهو يقول: اه ما أنا هطلع، بس حبيت أعرفك إن طاهر خط أحمر، لو فكرت تقرب منه فضيحتك هتبقى على كل لسان، الجمعة الجاية بعد الصلاة أهل البلد كلهم هيبقوا بيتكلموا عن كبيرهم اللي عاش 30 سنة خادعهم بعيل مش من صلبه.
هنا فقط صاح منصور بغضب: لا أنت مجنون، أنا مش عارف هما طالقينك على الناس كده ازاي.

قاطعه عيسى سائلا بضحك: عيني في عينك كده أنا مجنون؟، ولا أنت اللي كداب؟، طب خليني معاك أنا مجنون، إيه رأيك نقول لجابر وتروح تعمل DNA ونشوف بقى مين فينا المجنون.
شعر منصور بأن الهواء أصبح معدم في هذه الغرفة، كان يشك أنه يعرف شيء ما ولكن الآن تيقن، سره الذي أخفاه كل هذا يتلاعب به عيسى الآن بكل أريحية، اختار الإصرار على الإنكار وقال: ده كدب، قول اللي تقوله، جابر ابني غصب عنك وعن اللي يتشددلك.

هز عيسى رأسه نافيا وهو يواجهه بحقيقته: قصدك ابن الشغالة اللي كانت في بيت مهدي وكوثر، هي خلفته وماتت، وأنت خدته والورق ورقنا والدفاتر بتاعتنا ومحدش هيدور ورانا.
مين اللي قالك الكلام ده؟
سأله منصور بغير تصديق أنه لديه كل هذه المعلومات بينما رد عيسى بأريحية: مش مهم، المهم إنه صح، لو عايز تنكر أنكر، بس ساعتها بقى هجيب جابر ونعمل التحليل ونشوف مين فينا كداب.

لم يدر منصور بأن هناك من يتابعهما من الخارج، هناك من يقف أمام الباب يستمع لكل حرف، يريد أي رد من والده ينفي كل هذا، كاد الترقب أن يقتله في انتظار جواب والده، إنكاره، ثورته، ولكن هوى قلبه أرضًا حين سمع والده يقول: طلباتك إيه؟

هل عاش كل هذا العمر في وهم، يتحمل صراعات من أجل شخص يستنزفه، شخص ادعى الأبوة وهو لا يكف عن هدمه، دارت عشرات الأسئلة في رأس جابر لم يتحملها وفر من هنا، بينما في الداخل رد عيسى على سؤال منصور: أنا مليش طلبات، لو بقيت في حالك مش هتشوفني، إنما لو فكرت تلعب فصدقني هضايقك أوي.

أنهى جملته الأخيرة وقرر المغادرة، سار أمام منصور بثبات، حتى وصل إلى الخارج، دخل إلى السيارة جوار شقيقه حسن ثم أخرج الهاتف وأرسل إلى رقم يعلم أنه ينتظر منه رسالة حاليًا: أظن كده اتأكدت.
أرسلها وأغلق الهاتف تماما، وكانت جهة الاتصال التي أرسل إليها هي جابر.

هذه المرة أصر على ألا يرافقه أحد، اختار أن يكون هنا بمفرده وألح على حسن أن يتركه، وقف عيسى أمام قبر شقيقه، كان ينظر للأرضية بأسى، ليست برودة عادية هذه التي تضربه، هربت الكلمات منه ونطق بصعوبة: وحشتني يا فريد.
ابتلع غصة مريرة في حلقه قبل أن يكمل: أنا عارف إنك زعلان مني.
لمعت العبرات في عينيه وهو يقول بوجع: أنا عملت كل حاجة علشانك، محدش هيفهمني قدك.

أنا وعدتك إني هحافظ عليها، حاولت بكل اللي أقدر عليه أساعدها تبقى أحسن، أساعدها تبقى هي، بس الظاهر إني فشلت حتى أساعد نفسي.
نزلت دموعه وهو يصرح بقهر: أنا زهقت من الدنيا كلها، لو كنت أعرف إن رجوعي هيتعبني ويتعب اللي حواليا كده مكنتش رجعت، أنا رجعت تايه ومش لاقي نفسي تاني يا فريد
مسح دموعه واسترسل: أنا مش عايز حاجة خلاص، أنا زهدت في الدنيا، كل اللي عايزه حاجة واحدة بس، هي إني ألاقيني، نفسي ألاقيني.

وكانت أكثر جمله قتلا لروحه: مكنتش عايزها تسيبني يا فريد، هو أنا مستاهلش؟
هو حرام أرتاح؟، أنا هروح أدور عليا ادعيلي ألاقي نفسي يمكن أرتاح.
عبراته تتغلب عليه من جديد وهو يقول: هتوحشني.
شعر بحركة خلفه فاستدار ليجده والده، بدا ملهوفًا، علم أن حسن بالتأكيد أخبره، وسمعه يقول بعتاب: وأنا؟
تناول عيسى كفه يقبله قبل أن يقول: أنت أبويا وضهري، وأنا تعبتك أوي، حقك عليا.

هتف نصران بإصرار: مش عايز منك حق، أنا عايزك أنت يا عيسى…
عايز ابني.
طالبه عيسى برجاء وروح أنهكها الوجع: علشان خاطري خليني أعمل اللي أنا عايزه، خليني أدور عليا، لما أرتاح هرجعلك بنفسي.
هو أنا عمري لسه فاضل فيه علشان تدور وترجعلي يا عيسى؟
سأله نصران بحزن واضطرب فؤاد ابنه من قوله هذا ورفضه قائلا: متقولش كده، ربنا يديك طولة العمر، حياتنا كلها في إيد ربنا، وأنت راجل مؤمن، أنا مش هتقطع خالص.

وعده بعينين دامعتين: هكلمك علطول.
رفض نصران ذلك رفضًا قاطعًا، هل يترك روحه تغادره وبان رفضه هذا في قوله: لا انا مش هسيبك تمشي، مش هسيبك تبعد عني تاني.
سأله ابنه بما تسبب في عجزه عن الرد: حتى لو قولتلك إني مش هبقى مرتاح؟، سيبني وأنا والله العظيم أول ما أحس إني قادر أرجع هرجع.
لم يعرف نصران بما يرد، بانت حسرته في عينيه، لم يتحمل انكسار ابنه وهو يرجوه: علشان خاطري.

فاحتضنه، احتضنه وقد تراكمت عليه كل أوجاع الدنيا، لم يتجرأ على قول ارحل أبدا، ولكنه لم يكمل في مجادلته، احتضنه فقط وكأنه يطالب العالم بحقه فيه، بحقه في ابنه الحي الذي سيفارق، وحقه في الميت الذي يرى اسمه أمامه وقد غادره إلى الأبد، الخسارة عظيمة، عظيمة لدرجة تجعلها لا تُنسى أبدًا.

توقفت بيريهان أمام إحدى البوابات، كانت تدق بلهفة وترقب وخوف، مشاعر مختلفة عصفت بها حتى فُتِح الباب، لم تصدق عينيها وهي تراه أمامها بابتسامته التي تحفظها عن ظهر قلب، صرخت بفرح ووضع هو يده على فمها ناطقا وهو يسحبها للداخل: يا مجنونة صوتك.
احتضنها وغمرت السعادة فؤادها، ضربته في صدره بخفة ونطقت بلوعة: وحشتني أوي يا شاكر.

صراعات لا تنتهي، داخله وحوله، كل ما يعلمه أنه أراد توديع هذا المكان وبشدة، كانت نسمات الهواء العليلة التي تطل في بداية الصباح هذه قادرة على إسعاده، ولكن لم ينجح معه شيء الآن، هنا عند الجسر حيث كان يلاقيها، المياه تتحدث عن ألمه ببراعة، لو نطق الجسر هذا لواساه، وقف عليه يطالع المكان من حوله شاردًا في آخر مرة التقي فيها بها هنا، حين وعدها بالحياة السعيدة، ضحك بتهكم ثم تنهد بعمق، سمعها تناديه ظنها خيالات، ولكن تكرر النداء، كانت تقف تخشى الصعود له، سألها ولم يتزحزح عن مكانه: نعم؟

بدت خائفة وهي تسأله: عمو كان عندنا امبارح.
ألقى بحجر في المياه وهو يقول بهدوء: اه ما أنا عارف.
سألته بحزن: عيسى هو أنت هتمشي بجد؟
استدار لها يسألها ضاحكا بسخرية: رجعتي في كلامك وعايزة ترجعي ولا إيه؟
لا
قالتها مسرعة تدافع عن قرار اتخذته في السابق، وتخشى التراجع عنه الآن ولكنها تخشى فقدانه أكثر، لذلك لم تستطع ألا تقول: بس أنا مش عايزاك تمشي.

عاد لمطالعة المياه، وهو يلقي على مسامعها ما كاد أن يفتك بها: ما هو مش كل حاجة بنعوزها بناخدها يا ملك، أنتِ خدتي الطلاق اللي كنتي عايزاه، أظن من حقي أنا كمان أخد حاجة أنا عايزها.

لم ترد سماع هذا أبدا، الجسر الذي تخشى الصعود عليه دائما، ولم تفعلها إلا بمساعدته، تجرأت في هذه اللحظة وصعدت لتصل له، تغلبت على الخوف أو نسته تماما في حضرته، استدار حينما شعر بها خلفه، طالع عينيها الحزينتين، أرادت اختلاق أي سبب ليبقى فبدت كالذي يهذي: طب وعمو، هتسيبه كده؟
أبويا أنا حليت أموري معاه.
لاحقته تعدد له أسباب ليبقى: وطاهر وحسن ويزيد ورفيدة، وحتى ميرت، كل دول إيه؟
علق بهدوء: متشغليش بالك.

نزلت دموعها وسألت: طب وأنا؟
رفع كتفيه يتساءل بتصنع الاستنكار: مش فاهمك، ما أنا عملتلك اللي طلبتيه.
لم تعرف ماذا تقول، كانت تنظر له تطلب بعينيها قبل فمها أن يبقى، سألها: ممكن أعمل حاجة ومتضايقيش.
سألته عما يريد، وكان جوابه أن احتضنها، ذرفت الدموع أكثر، كان انهيار تام، طالبته برجاء: متسيبنيش.
ثم اعتدلت تكمل: اديني فرصة بس اهدى، بس خليك هنا متمشيش، أنا موافقة إننا نرجع بس سيبني شوية.

كان حاسما وهو يقول: لا يا ملك.
هوى فؤادها أرضًا وهي تكرر خلفه: لا!
أتى ليتخطاها ويبتعد ولكن قطعت الطريق عليه تسأله بوجع: لا ليه، ده أنت ماهونتش عليا وجيتلك، هو أنا ههون عليك عادي كده؟

هزت ثباته، كما تفعل دائما، جاوبها بمشاعر متخبطة: في يا ملك كلام كتير أوي، بس مبقاش ينفع يتقال خلاص، لما تقوليلي دلوقتي اقعد وانا فترة وهرجع، يبقى أنتِ بتعملي حاجة غصب عنك ومفكراها هتبقى مسكن لحاجة تانية، وهي إني أفضل موجود، أنتِ قدامك المستقبل يا ملك، عيشي، واشتغلي، كملي الدراسة وانجحي، اعملي الحاجات اللي تخليكي فرحانة بنفسك، وأنا هعمل الحاجة اللي جايز ألاقي نفسي فيها.

تشبثت بذراعه وهي تكرر بإلحاح: هعمل كل ده وأنا معاك، أنا عايزة أفضل شايفاك قدام عيني يا عيسى، علشان خاطري.
كفاية كده يا ملك.
قالها بحسم وأنزلها، لم تتحرك إلا لتقف أمامه تمنعه: بقولك علشاني.
جاوبها قائلا: وأنا بقولك كفاية.
صرخت في وجهه بانهيار: أنت بتكسرني، أنا مش هنسهالك أبدا لو مشيت.
طالعها بقهر بان لها جفاء، ثم تخطاها قائلا: أنا أسف لو هخيب ظنك المرة دي يا ملك.

سمع همسها ومنادتها باسمه بلوعة من الخلف، نزلت دموعه ولكنه أكمل سيره حتى لا يتراجع بعد ثانية واحدة، كانت في الخلف تبكي بانهيار، كانت ترفض كل هذا، تود لو ماتت قبل أن يحدث أي شيء، لو لم تقابله من الأساس، أما هو فأكمل طريقه، طريقه الذي عزم أن يخوضه بمفرده، رحلة خاضها مسبقًا مبتعدًا عن الجميع، من جديد إلى شرم الشيخ، جلست على الأرضية والبكاء يرافقها، وروحها تتمنى أن ياليت ما كان كل شيء، وحينها عبر فؤادها ببلاغة: كُف عن الدمعِ قلبِ المُعذب، أتظنه يُجدي؟

والله لا يُجدي
إن الهوى الذنب و أنت فاعله
و رحل من نهوى و تركنا نبكي
ربما تلاقينا، و ربما لم نحكِ
لكنه فَلَ و تركنا نهوَى
يا ليتنا سمعنا من صادقٍ قال: ”إنَّ الهوَى ذنبٌ، والحب لَا يُجدي.