رواية وريث آل نصران الجزء الثالث للكاتبة فاطمة عبد المنعم الفصل السبعون
آدي اللي كان و آدي القدر و آدي المصير
نودع الماضي. و حلمه الكبير
نودع الأفراح. نودع الأشباح
راح اللي راح ماعادش فاضل كتير
وأرجع وأقول
لسه الطيور بتفن. والنحليات بتطن
والطفل ضحكه يرن
مع إن. مش كل البشر فرحانين
– صلاح جاهين-.
ضائع، هذا أدق وصف لحالته الآن، لا يسمع الأصوات من حوله فقط ضجيج رأسه، وصورة صديقه بين ذراعيه لا تفارقه، جلس على أحد المقاعد في هذه المشفى، وأخيرا انتبه لها، كانت تندب حظ ابنتها، وتبكي متحسرة بمرارة، لم يعبأ عيسى بحالة كوثر هذه، ترفض الحديث منذ قدومهم إلى هنا، صب كامل اهتمامه على صديقه أولا حتى نقله إلى هذه المشفى بسلام، والآن توجه ناحيتها، وقبل أن ينطق طالبته برجاء: شوف أي حد بس يطمني على ضنايا.
ورد عليها يصب كامل غضبه على رأسها: أنا عايز اعرف هخلص منكوا امتى، مين اللي عمل كده؟
لم تجاوب لا تقدر على التحدث حتى اتهم ابنها بما حدث: الحيلة ابنك مش كده
وقبل أن يكمل متوعدًا قاطعته تقسم له: لا، أقسم بالله شاكر ما عمل حاجة، ولا يعرف عن اللي حصل
أنا ميفرقش معايا حد غير بشير، اطمن عليه بس ومش…
قاطع حديثه خروج الطبيب، هرول ناحيته يحاول معرفة أي شيء عله يطمئن وبان هذا في لهفته وهو يقول: يا دكتور لو سمحت.
ولكن خاب أمله حين رد الطبيب: لسه يا أستاذ، مفيش حاجة نقدر نقولها دلوقتي.
عاد للجلوس واضعًا رأسه بين كفيه، ولم يرفعها إلا حين سمع كوثر تسأل: هو الحكومة هتيجي؟
طالعها بلا رد، فقط نظرات تعبر عن اشمئزازه جعلتها تصمت، وتتحاشى التحدث معه في هذه اللحظات تحديدًا لتفاديه.
في بعض الأحيان يتوقف عقلنا عن تصديق أفعال الأخرين، لم تصدق ملك فعلة قسمت، قطعت عقدها عن قصد بعد أن سمعت منها كيف يتجاهلها عيسى من أجلها، بل وتطالعها بمقت، وتهتف: Sorry
وتحت نظرات ملك تابعت: اتقطع بالغلط، كنت عايزة اتأكد هو ده الشغل بتاعنا ولا لا، بس الظاهر كده إن الماتريال كانت رخيصة، مش هتعامل مع المصنع ده تاني.
دفعتها ملك فسقطت على الأريكة خلفها، وقبل أن تنطق، واجهتها ملك وقد طفح كيلها: أنتِ واحدة مش محترمة، ومش الماتريال اللي بتشتغلي بيها هي بس اللي رخيصة يا قسمت.
أبعدتها قسمت عنها وهي تهدر بانفعال أثناء وقوفها مجددا: بتتكلمي عني أنا كده!، على فكرة نفس الكلام ده أنا قولته قبل كده عنك، ولا أنتِ إيه رأيك في اللي تنسى واحد وتبدله بأخوه كده علطول؟
وبانفعال مماثل ردت عليها: وأنتِ تعرفي عني إيه، ومين قالك إني نسيت اللي حصلي أصلا
كانت قسمت مدركة بالفعل لهذا، تتذكر دفاع عيسى عنها، كم أنها تعاني حتى الآن، كم حاربت هذا الحب وحاربه هو أيضا، ولكن كل منهما كان يعود كل مرة إلى نفس النقطة، يعود إلى الأخر الذي وجد عنده ما يفقده.
وأكملت ملك تدافع عن حالها: أنا مبعملش حاجة حرام، أنا متجوزة، لا بجري ورا جوز حد ولا بطارده في كل حتة، لو حد يستحق اللوم والمعايرة يبقى أنتِ
حاولت ملك التنفس بصورة طبيعية من جديد قبل أن تلقي على مسامعها: أنا من أول لحظة شوفتك فيها، وأنا عارفة اللي جواكي، عمري ما تقبلتك، ولا حبيت وجودك، وكنت ببقى فاهمة حركاتك على فكرة وأنتِ بتحاولي تضايقيني.
وقبل أن ترد قسمت قاطعتها هي تتابع ما بدأته بإصرار: بس أنتِ بتصعبي عليا جدا، عينك فارغة، عندك حاجات كتير جايز مش عندي، ومع ذلك مستكترة عليا حب عيسى، ومش قادرة تفهمي إنك قدامه طول عمرك، ولو عايزك كان اتجوزك، لكن هو حبني أنا.
أشارت ملك بعينيها على حبات العقد المتناثرة على الأرضية قائلة: العقد اللي أنتِ قطعتيه ده فكرك بخسارتك، فكرك إنه حتى في الوقت اللي كان بعيد عن حياتي فيه وشغال معاكِ أنتِ كان بيفكر فيا، أنا زعلانة على العقد بس متأكدة إني هقدر أعوض اللي قطعتيه ده مع عيسى، إنما نفسك وكرامتك اللي عمالة ترخصيهم دول مهما حصل مش هيتعوضوا.
خلصتي؟
سألتها قسمت عقب أن توقفت عن الحديث، ولم ترد ملك ولذلك تحدثت قسمت: الحب اللي بتقولي إني مستكتراه عليكِ ده، لو أنا فضلت في حياة عيسى قبل ما أنتِ تظهري مكانش هيبقى ليكِ، بس أنا بعدت وبمزاجي على فكرة، وقطعت أي وسيلة للتواصل بيننا.
قاطعتها ملك تخبرها كم هي جشعة: بعدتي علشان كنتي مشيلاه ذنب اللي حصلك، وبعد ما اتعافيتي عايزة ترجعي تاخديه وأنتِ عارفة إن في قلبه حد غيرك، الحاجات دي كلها تقولك قد إيه أنتِ أنانية يا قسمت.
ضحكت قسمت قبل أن تخبرها بثقة تامة: أنا لو أنانية بجد مش هسيبه غير لما اتجوزه يا ملك، أنتِ متعرفينيش كويس، لما بحط حاجة في دماغي بعملها، زي عيسى بالظبط، وعلشان اثبتلك إني كنت ناوية ابعد مش اخده منك أو حاجة.
أخرجت هاتفها، ودقت لباسم، والذي جاوبها في المرة الثانية سائلا بقلق: في حاجة يا قسمت؟
أنا قولتلك عايزة أقابل عيسى ليه يا باسم؟
فتحت مكبر الصوت وانتظرت الجواب هي والواقفة أمامها، بدا الأمر غريب بالنسبة لمن حادثته، لماذا تستفسر عن شيء قالته في جلسة ودية معه، ولكنه في الأخير جاوب: قولتي إنك عايزة تقعدي معاه لآخر مرة وتوضحيله كل حاجة قبل ما تمشي وتبعدي خالص، بس أنا قولتلك يا قسمت إن ده ملوش لزوم.
أنهت المكالمة، وعادت تطالع ملك التي لم يتغير رأيها بأي شيء، بل سألتها باستخفاف: إيه كل حاجة اللي هتوضحيهاله قبل ما تبعدي؟
إنك بتحبيه، ولا إنكم هتفضلوا صحاب، ولا زي العادة كنتِ مقررة تبعدي بعد ما تديه محاضرة قد إيه هو ظلمك لما اختار علاقتنا على علاقته بيكي، قوليلي هتوضحيله إيه من دول؟
جلست قسمت على الأريكة وباستخفاف مماثل ردت: لما يوصل ابقي اسمعي كلامي قدامه.
وأنا ميهمنيش اسمع حاجة، ولا حتى يهمني توضيحك، أنا كل اللي يهمني إنك تحترمي نفسك شوية، وأنا مش هطردك بالمناسبة، خليكي لحد ما يجي، ويطردك هو.
ابتسمت قسمت بسخرية، قابلتها ملك ببرود، ثم انحنت تجمع ما تطوله يداها من حبات العقد، وتضعهم في حقيبتها تحت نظراتها، كانت جلسة ثقيلة على روح ملك التي حاولت الاتصال بعيسى أكثر من مرة والنتيجة لا إجابة، حتى أنها سمعت السخرية في نبرة تلك الجالسة بأريحية على الأريكة تشاهد أحد المقاطع على هاتفها المحمول وتعلق: شكله نسيكي هنا.
عقبال ما تنسيه أنتِ كمان.
هكذا أخبرتها ملك بابتسامة صفراء، وهي تحاول الاتصال به مجددا، دقائق وأتاها اتصال منه، أسرعت ترد وتسأله بقلق: إيه يا عيسى كل ده، أنت فين؟
حاول جاهدًا أن يبدو صوته طبيعيا وهو يخبرها: معلش يا ملك في مشكلة كده حصلت وبحاول أحلها، بصي تاني درج عندك في المكتب هتلاقي مفاتيح المكان اللي جنب المعرض، باتي عندك واقفلي على نفسك يا ملك، وأنا الصبح هجيلك.
قتلها خوفها، وعادت تسأله وكأنها لم تسمع كل ما قال: في إيه يا عيسى؟ أنت فين أنا هجيلك
ردعها عن هذا مسرعًا: لا يا ملك، تيجي فين اسمعي الكلام، أنتِ مش شايفة الساعة كام.
استقامت قسمت واقتربت منها، حاولت أخذ الهاتف لتحدثه، وهي تقول: هاتيه عايزة اكلمه.
طالعتها ملك بانزعاج، وسألها عيسى: مين جنبك يا ملك؟
أنا قسمت.
علا صوتها، وهي تنتشل الهاتف، وسريعًا ما كانت تسأله: في مشكلة يا عيسى، أنت فين، بقالي كتير مستنياك هنا.
وبعبارات مختصرة رد: مفيش حاجة، أنا مش فاضي النهاردة، روحي دلوقتي علشان الوقت اتأخر، واديني ملك.
ومع قوله الأخير سحبت ملك الهاتف منها، وهي تطالعها بضيق جلي، ثم تركتها وتوجهت بعيدًا، تحاول معرفة ماذا حل به.
تجلس على إحدى الأرائك في حديقة منزل عمها، غادرت ندى غرفة بيريهان أخيرا بعدما رافقها النوم، كانت ندى شاردة حتى أتتها رسالة من باسم يخبرها: أنا برا.
خرجت له، هي من طالبته بالحضور إلى هنا، كان ينتظرها في سيارته، وركبت هي جواره، لم يخف عليها النظرات في عينيه، يتأملها وكأنها غابت عنه منذ أعوام، تنهدت بهدوء حتى قطع هو الصمت سائلا بجفاء: اتصلتي ليه؟
لم تعلم بماذا تجيب، منذ اللقاء الأخير حين صرح كل منهما عن ألمه وهو يتحاشاها تماما، تجنبته هي أيضا بعد فعلته حين طلبت منه أن يتزوجها فأخبرها أنه لن يقبل إلا إذا كان الزواج سريًا، وبشروطه، رفضت واستنكرت، وغادرت وقد جرحها وبشدة، ليضاعف هو جرحها ويساوم والدها على سداد جزء من ديونه مقابل الزواج منها، أراد أن يكسرها وتحقق مراده، وفي النهاية عبر كل منهما عما يؤلمه، هو صرح عن جرحه الغائر منها، وهي أخبرته أنها نادمة، ورغم المشاعر التي تكنها له الآن ستبتعد في صمت.
لم يحظ برد منها على سؤاله، فناداها مجددا ينبهها: يا ندى.
استجابت بالفعل وانتبهت له، وأخيرا ردت: أنا مش عارفة أنا اتصلت ليه، من أخر مرة اتقابلنا وأنا مقررة إن كل حاجة انتهت، بس أنا تعبانة أوي، محتاجة اتكلم، ومفيش حد دلوقتي يسمعني، حتى بيري هي محتاجاني أكتر ما أنا محتاجالها.
وقبل أن يتحدث أخبرته بعينين صادقتين: باسم أنا اتصلت بيك علشان أنا بطمن وأنا بتكلم معاك، مش علشان مش لاقية حد غيرك، أنا محتاجالك.
سحرها مثل أول مرة لمحها بها، أعادته إلى ذكريات لم ينسها قط، ذلك الحفل الذي تم دعوته له، حين وقعت عيناه عليها للمرة الأولى، ولم ينتظر بل سأل الواقف جواره: هي مين دي؟
فاستنكر السؤال ورد عليه: مش عارفها ازاي يعني، دي ندى من عيلة الأسيوطي، ما أنت ليك شغل معاهم.
لم ينتظر أكثر ذهب ناحيتها خاصة حين رأى والدها الذي يعرفه تمام المعرفة، رحب بوالدها أولا، ثم عرفه بها: دي ندى بنتي يا باسم.
ابتسمت بهدوء تهز رأسها ترحب به، قبل أن تسمع والدها يقول: مش كنتي عايزة تغيري عربيتك باين، باسم أحسن حد يفيدك في الموضوع ده.
بجد؟
سألته ورد هو ونظراته لا تفارقها بعد أن سحب مقعدًا ليشاركهما جلستهما: أكيد.
فاق من شروده في القديم على صوتها: روحت فين يا باسم؟
معاكي، بس افتكرت حاجة كده، قوليلي اقدر اساعدك ازاي، أو احكي اللي مضايقك أنا سامعك.
كان نبرته جافة، مسكت كفه فاستدار يطالعها، وهي تهتف: بلاش تكلمني كده، وكإنك بتعمل الواجب وخلاص، ده أنا اتصلت بيك أنت بالذات علشان الاقي حد يطمني.
هزته نبرتها، ولم يصدق حين سمعها تصرح بدموع: باسم أنا بحبك، معرفش ازاي وامتى، بس فجأة ده حصل.
ووضحت أكثر وكأنها أخذت قرارها بأن تقضي على ثباته الليلة: ومش بقولها علشان أي حاجة، ولا حتى علشان تفضل جنبي، لو عايز تمشي دلوقتي يا باسم امشي.
سحبت يدها التي كانت تقبض على كفه تحت نظراته المسحورة، لا يعلم ماذا يفعل الآن، حديثها دفعه لقول: هو مين هنا؟
أشار على الداخل فانكمش حاجبيها باستغراب وجاوبت: بابا وعمو وبيري.
هز رأسه راضيًا، وعلق: طب كويس.
ثم أخرج هاتفه، وسيطرت عليها الحيرة، لا تدري بماذا يفكر، حتى حاوطها بنظراته وأخبرها: احنا هنتجوز دلوقتي.
لم تصدق ما تفوه به، وقبل أن تعترض، كرر هو بإصرار: لو عايزاني اصدق إنك فعلا بتحبيني، وإنك صادقة في اللي قولتيه، يبقى نكتب الكتاب دلوقتي، وتمشي معايا.
أنت بتهزر!، أكيد ده مينفعش على الأقل دلوقتي.
ولكنه كان حاسمًا، وأعطاها جوابه: أنا مبهزرش يا ندى، وياريت تاخدي قرار حالا، لو عايزة تثبتي صدق كلامك فعلا يبقى نتجوز دلوقتي.
نصب لها الفخ، والآن يساوم لن يصدق إلا إذا تزوجا الآن ضاربًا بأي شيء اخر عرض الحائط، فقط يريدها أن تبرهن لمرة واحدة على صدق تصريحها.
صداع رأسه يكاد يفتك به، لا يعلم كيف قضى هذه الساعات حتى وصل إليه طاهر، هرع ناحيته بقلق سائلا: إيه يا عيسى اللي حصل؟
تذكر حضور الشرطة، معرفته ما حدث، لا يصدق أن صديقه تعرض لكل هذا، نطق بصعوبة وهو يمسح على وجهه بتعب: كان معايا وسيبته على أساس هيروح، الزفتة اللي هو متجوزها كانت بتكلم أمها من وراه، هو اللي جابلها الرقم وخلاها اطمنت عليها مرة، النهاردة امها اتصلت بيها وقالتلها تعاليلي عايزة أشوفك، وبعتتلها ال location، خرجت من غير ما تقوله وراحت.
وكأنه يسمع صوت كوثر الآن وهي تقول من بين بكائها: محسن كان هيموتني، طلعلي فجأة، وحلف بالله إنه مش هيعملها حاجة بس اجيبها يشوفها، ثبتني بالسلاح يا باشا، كلمتها تيجي، هي مكانتش تعرف يا حبة عيني وجت.
لم يستطع عيسى إكمال ما حدث، صمت بإنهاك واضح، فربت طاهر على ظهره يطالبه: اهدى يا عيسى، بلاش تنفعل، متكملش دلوقتي.
خرج الطبيب من جديد، هرول عيسى ناحيته، وأتت كوثر تلاحقه وقبل سؤاله سألت: بنتي يا دكتور، علا عاملة إيه؟
جذبه الطبيب بعيدا عنها وحين أتت لتلاحقه، استدار عيسى يطالعها بغضب هاتفًا: إياك تيجي ورايا.
حين انفرد بالطبيب، سأله بلهفة: طمني يا دكتور
المدام حالتها صعبة أوي.
وكان عيسى سيعلق على رده بانفعال يسبها، ولكنه تماسك، وسأل: يا دكتور طمني على بشير.
هز رأسه يحاول طمأنته على صديقه: هو الاتنين حالتهم صعبة لكن لحد دلوقتي هو حالته مستقرة عنها وهيفضل برضو تحت الملاحظة، لكن بالنسبالها هي كل الاحتمالات متوقعة.
تذكر توصية صديقه عليها، اسمها الذي ظل ينطق به حتى أغمض عينيه، شعر بما يمكن أن يصيبه إن مسها مكروه، وتساءل: يعني مش هتعيش؟
ربت الطبيب على كتفه طالبًا: ادعيلها.
ثم تخطاه ورحل، وتركه يقف مكانه هكذا يفكر في ألف أمر، وبكل أسف كل منهم يؤرقه.
نظن أن جراحنا يداويها مرور الأيام، ولكن مع الأسف ندرك كل يوم أننا نزداد ألمًا.
صرفه الطبيب، طالبه بالرحيل وبأنه لن يُسمح له بالبقاء هنا، فاضطر مجبرًا الرحيل، أخبره طاهر أنه سيقضي شيء، ثم يمر يطمأن وطالبه بالذهاب للراحة، لا يعلم كيف وصل إلى هنا، لم تذق النوم كانت تنتظره، هبت من مكانها تقترب منه، وتسأله بلهفة: أنت كنت فين، إيه اللي حصل؟
دفن رأسه في عنقها، ومسحت هي على خصلاته وهي تسمعه يقول بتعب: عايز انام يا ملك.
أدركت أن حالته لا تتحمل أي شيء، وهي تراه يبتعد، أخذ من ملابسه المتواجدة هنا، وتوجه إلى المرحاض، وما إن خرج حتى وجدها تضع على الطاولة الطعام قائلة: أنا طلبت أكل، مرضتش اتعشى، كنت حاسة إنك هترجع.
ابتسم، ومسح على وجنتها برفق مطالبًا: أنا مش قادر، اتعشي أنتِ.
مالك طيب؟
كانت خائفة وبشدة، وحين رأى الخوف في عينيها هتف: متخافيش، أنا كويس، لما اصحى هحكيلك.
توجه ناحية الفراش، أعادت الطعام إلى المطبخ، وذهبت جواره، شعر بالضيق من أجلها أيضًا، ولكنه غير قادر حقًا على الحديث عما حدث من جديد، سألها وقد أغمض عينيه: قسمت كانت جاية ليه؟
بدا الضيق على وجهها ففتح عينيه وسألها: هي ضايقتك؟
أشارت على عنقها وقالت بحزن جلي: قطعت العقد.
بدا الاستنكار جليًا على وجهه، وهو يطالع عنقها الخالي منه، رأت ضيقه الذي تشكل على وجهه، فمسحت على كفه قائلة بابتسامة: مش مهم، المهم أنت معايا.
ووعدها وهو يحتضنها، واضعًا قبلته على عنقها: هجبلك غيره، نفس اللي اتقطع.
اتسعت ابتسامتها وتشبثت به، أخذت تمسح على رأسه حتى اطمأنت أنه نام حينها نامت هي الأخرى وكل منهما تحاوطه السكينة.
اليوم الخمسون تقريبًا منذ حادث بشير، كل شيء في الأجواء انقلب رأسًا على عقب، تألم كثيرون، وفرح كثيرون، صلى نصران الفجر في إحدى الليالي برفقة طاهر ثم ذهب معه إلى عز الذي كان ينتظرهم، اصطحبهم وفي الطريق أخبر نصران: والله يا حاج بيتعامل معاملة الكلب ميرضاش بيها.
هز نصران رأسه برضا، سريعا ما وصلوا إلى وجهتهم، أخرج عز المفتاح وفتح الباب الحديدي لهذا المكان، دخل نصران أولا، ومن خلفه ابنه، ثم عز الذي أغلق الباب وضغط على زر الإضاءة، ليظهر شاكر جالسًا على الأرضية وقد تم تكبيله، كان يطالع نصران وابنه بمقت وقد بدأ يدرك ما يحدث قابله نصران بابتسامة وهو يقول: مرحب يا شاكر.
في بعض الأحيان تصبح أحلامنا الوردية هي كوابيسنا السوداء، لا تعلم بيريهان كيف استطاعت الخروج والذهاب لطبيبتها النسائية، كل ما تعلمه أنها متعبة وبشدة، ورأت الطبيبة هذا، رأت انطفائها التام، فنبهتها بعد الكشف: بيري حالتك دي متنفعش، مبروك يا حبيبتي أنتِ حامل، لازم تاخدي بالك من نفسك.
لم تصدق ما تسمعه، جحظت عيناها، وهزت رأسها بإنكار، داهمتها الدموع ونطقت أخيرا بتوسل: لا، لا، مش عايزاه، أنا مش عايزاه يا دكتور، أنا عايزة انزله.
صُعِقت وهي ترى انهيارها هذا ورفضها للطفل، خاصة وأنها تعلم كم حزنت بشدة حين فقدت طفلها الأول، حاولت تهدأتها، ورغما عنها صارحتها: بيري اهدي، وياريت تفكري كويس، أنا مضطرة أقولك ده، بس أنتِ عندك مشكلة، وفرصك في الحمل بعد المرة دي هتبقى نسبة نجاحها ضعيفة جدا وكمان خطر عليكي.
وكأن أحدهم صفعها، تتذوق المرارة الآن، والسبب من أحبته، من لم تعرف الطمأنينة والسكينة إلا جواره، ينحرها الآن بنصل بارد.
في نفس التوقيت، كانت ملك في غرفتها عند ميرفت، منذ حادثة بشير وهما يتواجدا هنا أغلب الوقت، وكعادته منذ تلك الحادثة يرافق الصمت، كلماته قليلة، دخل إلى الغرفة وقد حضر للتو، وعلقت ملك ساخرة: طبعا كالعادة عايز تنام، ومش قادر تتكلم.
وغير هو الحديث معلقًا على ثوبها الذي كان من اللون الزهري، تفحصه قبل أن يخبرها بابتسامة غامزًا: حلو ده.
هو إيه اللي حلو؟
سألته متصنعة عدم الفهم، ورد هو بنفس طريقتها: أنا.
كانت سترحل ولكنه جذب مرفقها، يطالبها بالتمهل، وهو يسأل: الشياكة دي أكيد وراها حاجة، لما بحسك بتعامليني على إني جوزك مش شهد ومريم اخواتك بتبسط أوي.
ضحكت فعلق هو: بتضحكي ها؟
أنت بالك رايق أوي النهاردة.
جذبت المشط وأعطته له بعد قولها تطالبه: خد اعملي شعري.
وقفا أمام المرآة يمشطه لها، حتى نطقت هي: فاكر آخر مرة عملتلي شعري كانت امتى؟
هز رأسه مؤكدا بابتسامة واسعة: طبعًا فاكر، عندكم في البيت، لما أمك نكدت عليا الصبح بعد أسعد ليلة في حياتي.
ضحكت وطالعها هو في المرآة وهي تقول: اهي أسعد في ليلة في حياتك دي شكلها خدمتك أوي.
أبدى استغرابه وعلق وقد توقف عن تمشيط خصلاتها: لا مش فاهم.
استدارت له، تنفست بعمق، ولا تعلم كيف نطقت وهي تنظر إلى عسليتيه: قولتلي قبل كده إني أهم أحلامك، ورجعتلك وخدت أهم أحلامك، صح؟
هز رأسه مؤكدًا أن هذا صحيح، فأكملت: شكلك كده هتاخد كل حاجة يا عيسى.
أنا حامل.
إن أقسم له أحد الآن أن ما قالته ليس بالسحر لكذبه، على يدها تعلم كيف يمكن أن يأسرك المرء بقول، لم يصدق، واتسعت ضحكتها وهي تخبره: مخدتش في أسعد ليلة في حياتك الحبوب.
رأت ضحكته التي زينت وجهه، احتضنها بشدة، وهو يلعن تلك الحبوب، ويهتف: ودي تاني أسعد ليلة في حياتي، وشكرا لليلة الأولى على الخدمة اللي كنت متأكد إنها مش هتستخسرها فيا.
وأكمل كعادته متواقحًا: وعايز ليالي كتير من غير ما الست هادية تحسسني إني عامل عملة، وأنتِ تحسسيني إننا اخوات في الرضاعة.
حاولت الابتعاد عنه، وهي تدفعه في معدته، علت ضحكاته ولم يفلتها، وكأن أحد الطيور أعاره جناحين، يحلق الآن بسبب ما قالته، حبه ليزيد، هو على يقين من أنه سيعطي مثله وأكثر لقطعة من روحه وروحها، وقال أمنيته وهو يحتضنها: بتمنى ليالي كتير يا ملك تكون فيها ملك.
وأشار على عينيها بعينيه وهو يأسرها: وعيون ملك، وضحكة ملك.
يتغنى باسمها، معه فقط تدرك كم هو جميل، معه تدرك أن الكون كله وردي، فقط لأنها بجواره، لأنه يحاوط خصرها بذراعه الآن، ويبثها كم يسعد لأنها هنا، كم يحبها، وكم أن طفلها سيكون الحظ بأكمله من نصيبه فقط لأن والده هو هذا الرجل، الذي ينجح في كل مرة أن يجعلها تقع في حبه وكأنها المرة الأولى، ينجح في تحويل كابوسها الأسود إلى حلم وردي لا تريد الاستيقاظ منه أبدا، فقط لأنه بطل هذا الحلم.