فرنسا تستنهض روح الأمة العظيمة: هل تنتهي هيمنة الدور الأمريكي؟

في مقدمة تجمع بين التحليل العميق والسرد الإخباري، تتنازع فرنسا اليوم أدواراً متناقضة بين تطلعاتها للزعامة الاستراتيجية وبين قيود قدراتها العسكرية. وفيما تسعى لتعزيز نفوذها داخل أوروبا ومواجهة التحديات الأمنية التي تحيط بالقارة، بدءاً من النفوذ الروسي إلى التطورات في الشرق الأوسط، يبقى السؤال قائماً: هل تستطيع تقود فرنسا “الغرب الصغير” أم أن الطموحات ستظل أكبر من الإمكانات؟

الاستقلالية الاستراتيجية في قلب الطموح الفرنسي

لطالما تمسكت فرنسا بمبدأ “الاستقلالية الاستراتيجية”، وهو مفهوم أطلقه الرئيس الأسبق شارل ديغول ليعني أهمية تقليل اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة. ولكن مع تصاعد التوتر مع روسيا عقب غزو أوكرانيا عام 2022، وجدت فرنسا نفسها في مواقف تتحدى هذا المبدأ. فعلى الرغم من معارضتها المبكرة للنفوذ الأمريكي، تبدو الأوضاع الجيوسياسية الراهنة وكأنها تدفع باريس إلى تعزيز تحالفاتها مع الغرب، في وقت تقف فيه أوروبا على أعتاب صراعات جديدة قد تغير موازين القوى.

في هذا السياق، تقدر فرنسا أنها لا تمتلك القوة العسكرية التي تمكّنها من قيادة أوروبا عسكرياً. ورغم احتلالها المرتبة التاسعة في الإنفاق العسكري العالمي وتخصيصها 2.1% من ناتجها المحلي الإجمالي للدفاع، إلا أن هذا الدعم المالي لم يُترجم إلى قدرة قادرة على إحداث فارق في الصراعات الكبرى.

هل تستطيع فرنسا الوقوف أمام روسيا؟

التعامل الفرنسي مع روسيا يحمل تاريخاً مليئاً بالتعقيدات والتحفظات. بدأ هذا التوجه منذ عهد شارل ديغول الذي حاول إيجاد توازن بين موسكو وواشنطن، إلا أن الأوضاع اختلفت كثيراً منذ ذلك الحين. فمع اندلاع الحرب الأوكرانية، ومع توقعات خاطئة من الاستخبارات الفرنسية حول نوايا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وجدت باريس نفسها في موقف أضعف مما توقعت.

رغم امتلاك فرنسا جيشاً متكاملاً ومجهزاً يخوض معارك في أفريقيا، إلا أن الأخطاء التي صاحبت تدخلاتها العسكرية، مثل انسحابها من منطقة الساحل عام 2023، أثرت على سمعتها كقوة عسكرية فاعلة. إضافة إلى ذلك، فإن التفاوت الكبير في القدرات النووية بين فرنسا (300 رأس نووي) وروسيا (5580 رأس نووي) يعكس تحديات واقعية أمام طموحات باريس في مواجهة موسكو.

معوقات الزعامة في أوروبا والعالم

بينما تطمح باريس لأن تكون “العقل واللسان” لأوروبا، ترى دول شرق القارة، مثل بولندا، أن الدفاعات التقليدية ضرورة عاجلة لا يمكن انتظارها. وتشير هذه الدول إلى تردد فرنسا في تعزيز دفاعاتها عبر التاريخ، من انسحابها من القيادة الموحدة للناتو في 1966 حتى عودتها مرة أخرى عام 2009.

ومع اقتراب عام 2027 واحتمالات تغيّر القيادة الفرنسية، تبقى المخاوف قائمة بشأن إمكانية تراجع الاهتمام الفرنسي بالأزمة الأوكرانية إذا وصلت زعامة اليمين المتطرف ممثلة بمارين لوبان إلى الحكم. مواقف لوبان السابقة المطالبة بتقارب مع موسكو تثير قلقاً بين الحلفاء الأوروبيين، ما يضع فرنسا في اختبار حقيقي لمصداقيتها القيادية.

بين الرغبة في دور استراتيجي أكثر تأثيراً والقيود الفعلية المفروضة عليها، يبدو أن مستقبل القيادة الفرنسية داخل أوروبا والعالم سيظل قائماً على تسويات معقدة بين الطموحات والإمكانات.