رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثامن عشر

رواية بعيدا عن الأرض للكاتبة ديمة الفصل الثامن عشر
المكان: كوكب الأرض.
نظر ليوناردو إلى السماء الملبدة بالغيوم من نافذة شقته، لقد حل الخريف ممهدًا شتاء قارسًا. افترشت أوراق الأشجار البرونزية المتساقطة على الأرضية العشبية فشكلت معطفًا فريدًا وموحدًا. كان ليوناردو يشعر ببعض التوتر من هذا اليوم فهو أول يوم له في الجامعة. لقد مر أسبوع على إقامته في هذه المدينة وبدأ يسأم بسرعة خاصة أنه أصبح بعيدًا عن ألبرت إلى فترة مجهولة، هو يفتقده جدًا في الحقيقة؛ فرغم أنه لم يعرفه سوى أسبوع واحد إلا أنه كان ذا تأثير عليه. استمر ألبرت بإرسال رسائل نصية إلى ليوناردو ليقدم له بعض النصائح بشأن إقامته وتحذيره من التهور ما جعله يضجر على أي حال من تلك التعاليم التي باتت تلازمه منذ زمن. نظر إلى نفسه في المرآة الطويلة التي علقت على أحد أبواب الخزانة، لم يكن من السهل عليه تقبل نفسه الجديدة بهيئة جديدة وثياب جديدة فشعر لحظة بأنه شخص آخر. حاول كثيرًا البحث عن ثياب تشبه ثيابه القديمة عساه يبدو مألوفًا لنفسه، ولكنه مع الأسف لم يحظ بتلك الفرصة وانتهى به الحال بشراء سترة سوداء مع بنطال أسود اللون. وأكثر ما كان يزعجه هو ضيق البنطال، فلم يعتد ارتداء شيء كهذا.
ستنتهي مهمته ويصبح حرًا في كل شيء، هذا ما كان يتردد في رأسه كثيرًا ليحصل على شعلة أمل تضيء قلبه المظلم. خرج ليوناردو من منزله بعد أن نظر إلى الساعة وأدرك أن الوقت حان لبدء هذا اليوم. قصد مصعد المبنى فقد كانت شقته في الطابق الثالث، هدوء مميت يعم المكان يجعله أشبه بالمقبرة. لا يبدو أن المكان شاغر بالسكان فلا وجود للكثير من الحركة، إنه سكن للطلاب ولكن يبدو أنه ليس بالمستوى المناسب لطلابٍ من الطبقة المخملية. كان عليه الوصول إلى الجامعة مشيًا على الأقدام فلم تكن تبعد كثيرًا عن سكنه. تجول كثيرًا في المنطقة حتى بات يعرفها جيدًا فهو من هواة التسكع دومًا، رغم أنه انطوائي إلا أن المشي في كل الأماكن يستهويه جدًا. لم تكن المنطقة المحيطة بسكنه أقل هدوءًا فقد كانت مهجورةً مقارنةً بالمناطق الأخرى التي قصدها، ولكن ما إن تقدم بخطواته نحو الجامعة حتى بدأت الضوضاء تصل إلى أذنيه؛ كانت على شكل همسات بسيطة في بداية اقترابه ما لبثت أن تحولت إلى ضجة عارمة مع اقترابه أكثر. جدار حجري بني يرافقه طول طريقه منذ أن وصل مكان الجامعة، ومع تقدمه وصل إلى المكان المنشود وكشف ذلك الجدار ستائره عن المكان. نظر إلى القوس الحديدي الذي امتد من نهاية الجدار على الناحية اليسرى إلى نهاية الجدار على الناحية اليمنى وقد كتب عليها «جامعة الأحلام». كان الطريق ممهدًا بحجارة من نوعية حجارة الحائط نفسها، وفي منتصف المكان تتمركز بحيرة بديعة الجمال وتدفق الماء العذب من نافورتها، ولولا ضجة المكان لاستطاع ليوناردو سماع صوت تدفق المياه. كان المبنى ضخمًا مبهر المظهر، تصطف أمامه الأشجار وفي باحته تتمركز مقاعد من الرخام الأبيض. كان المكان بديعًا بنظر ليوناردو لولا زحمته بالطلاب الذين كانوا يتسامرون ويضحكون ويثيرون الضجة حتى أن بعضهم يركضون كالأطفال، ولكن ما ذلك الفرق بين السكان هنا والسكان خارج المدينة؟ ربما يعود الأمر لظنهم بأن كل شيء متاح لمجتمعهم فقط. شق ليوناردو طريقه نحو الساحة متجهًا نحو المبنى فقد اقترب موعد بدء محاضرته المشؤومة.
عادت باحة الجامعة تمتلئ من جديد بعد أن حلّ السكون عليها بدخول الطلاب إلى المبنى لحضور المحاضرات، بدأت الضجة تنبعث من المبنى وهم يشقون طريقهم نحو الباحة الفسيحة. نظرت فيوليت بشيء من الضجر نحو صديقتها جاكلين التي لم تتوقف عن الثرثرة مستمتعةً بسرد أحداث كل لحظة من الأسبوع الماضي: «كانت آنجل كعادتها كما تعلمين، ولكن لقد فاتتك تلك الحادثة، يا إلهي فيوليت! لقد فاتك الكثير، أسبوع كامل، لماذا؟».
تكرر ذلك السؤال على مسامع فيوليت عشر مرات على الأقل منذ أن بدأ نهارها البائس، ولكنها لم تكن لتصرح بحقيقة ما جعلها تتغيب أسبوعًا، فأجابت زميلتها بنبرة حاولت أن تكون حاسمة ومقنعة لتساؤلات عقلها الفضولي: – تعرفين جاكلين، أنا لا أمرض كثيرًا عادةً، لكنني عندما أمرض مرة تكون كارثة.
– ولكن كان علينا أن نزورك لو لم تمانعي، كان يجب أن نزورك ونحضر بعض الأزهار ونتمنى لك الشفاء، كنت ستتحسنين بسرعة عندئذ.أجابتها جاكلين من فورها بأسلوب درامي بحت وكأنها حضرت إجابتها قبل أن تنطق فيوليت حتى. كانت فيوليت على وشك الصراخ بها لتعرب عن سأمها من كثرة ثرثرة صديقتها لكنها أجابت بهدوء مبتسمة:- ما كنت لأسمح بذلك، فعندئذ ستنتقل العدوى إليكم وأعود إلى الجامعة وحدي وأنتم طريحو الفراش.
– نعم، معك حق.
شكرت فيوليت الله في ذاتها لأنها استطاعت أن تجعل جاكلين تصمت أخيرًا. مشت برفقتها نحو طاولتهم المعتادة والتي اجتمع حولها مجموعة من أشهر الطلاب في الجامعة، كانوا جميعًا أصدقاء فيوليت إلا أن وجود بعضهم كان رغمًا عن رغبتها الخاصة. حيّتهم ثم جلست تستمع إلى أحاديثهم الجماعية.
«كان من غير اللائق منك أن ترجعينا عن زيارتك. كنا نريد الاطمئنان عليك فحسب». قالت آنجل فتوقف الجميع عن الحديث، فأراحت ذقنها على كف يدها وهي تبتسم ابتسامة بدت صفراء لفيوليت.
تنهدت فيوليت ثم قالت بضجر: «بالله عليك آنجل، ليس على أن أشرح الأمر ألف مرة على التوالي، لقد كنت مريضة جدًا وكانت ستصيبكم العدوى لو قمتم بزيارتي، حتى أنني لم أسمح لدانيل بزيارتي».
هز دانيل رأسك ثم قال من فوره قبل أن تجيب آنجل: «نعم، هذا صحيح، هل تحتاجين تقريرًا طبيًا عزيزتي آنجل؟».
كان موقف آنجل واضحًا أمام الجميع، فقد كانت تحاول إحراج فيوليت كعادتها ولكنها قابلت نظرات لم تعجبها من زملائها وأدركت ما تخفيه نظراتهم. كان وجودها غير مرغوب به من معظمهم ولكن فرض نفسها على الجميع لم يسمح لهم بإبعادها.قال أحدهم قاطعًا حرب النظرات تلك:«هل رأيتم ذلك الطالب الجديد؟ يقال أنه ليس من هنا. ».
بدأت نظرات بعضهم الفضولية تتجول في أرجاء المكان بحثًا عن وجه جديد بينما اندفعت آنجل بفضول قائلة:«أود أن أعرف من هو، لقد سمعت عن الأمر لكنني لم أعره انتباهًا. ».
«لقد كان معي في المحاضرة اليوم». أجاب جاك ثم أشار نحو إحدى المقاعد وأتبع: «هذا هو».
«ولكن لا أفهم ما الداعي من التحاقه بجامعة مدينتنا؟ فهو لم يدخل فرعًا عالي المستوى حتى». قالت آنجل بشيءٍ من الاستنكار وهي تتفحص ليوناردو بعينيها.
ابتسم دانيل ثم قفز من مقعده بغتةً وقال:«ما رأيكم ببعض التسلية؟».
نظرت فيوليت إلى شقيقها باستنكار ثم قالت:«لا بد أنك تمزح دانيل. ».
«هيا فيوليت، نتسلى قليلًا ثم نصبح أصدقاء». أجابها دانيل بسخرية وأتبع: «ثم لا تنسي أنه ليس من هنا».
كادت فيوليت تجيبه بشيء من الانفعال قبل أن تتعالى ضحكات زملائها وهم يشاركون شقيقها بفكرته، ففي النهاية هم يحملون شيئًا من العنصرية داخلهم. لم تشأ فيوليت مشاركتهم بتلك الفكرة السخيفة لكن آنجل لم تتردد بأن تكون أول المنضمين وتلتها زميلاتها. كان سخط فيوليت واضحًا حول فكرتهم ولكن لم يكن باستطاعتها منعهم على أي حال.
كانت المحاضرة أصعب مما توقع ليوناردو، فرغم أنه اختصاص مهني إلا أنه لم يكن بتلك السهولة التي توقعها. شعر ببعض الإحباط ولكنه تذكر بأنه لم يتلق التعليم الجيد في موطنه على أي حال وهذا شيء طبيعي ومتوقع الحدوث. حاول ليوناردو الإبحار في أفكاره عوضًا من التحديق في المكان حوله دون فائدة، الطبيعة بدت له باهتة، مبانٍ شاهقة أتعبت أنظاره وأشخاص لا يعلم عنهم سوى ظاهرهم الذي بدا له سخيفًا. فكر بالفترة التي يحتمل أن يُحبس بها في هذا العالم الذي شعر بأنه سجن مؤبد، متى ستنتهي تلك المهمة ويعيش كما يريد ويتمنى؟ ولكن هل سيجد الظروف المناسبة ليعيش كما يتخيل؟ هل سيعم السلام؟ لم تدم سلسلة أفكاره تلك فلقد قطعها مجموعة من الشباب واقتربوا منه بشكل ملحوظ ولكنه لم ينتبه لذلك التجمع إلا بعد برهة. لاحظ نظرات السخرية والازدراء في أعينهم وحاول أن يقنع نفسه بأنهم ليسوا قادمين إليه تحديدًا، لكن سرعان ما باءت محاولته تلك بالفشل. شعر كأنه يختنق نتيجة محاصرتهم إياه وقد حجب بعض ضوء الشمس عنه. اقترب دانيل وجلس جانبه ثم قال بنبرة ساخرة:.
«لم نتعرف على الشاب الجديد بعد؟».
رمقه ليوناردو وأعرض عن إجابته بسبب معرفته بما تخفيه تلك النبرة.
لم يكن تجاهله رادعًا لدانيل حتى يكف عمّا يفعله، بل شعر بأنه بحاجة ملحة لاستفزاز ليوناردو والاستمتاع قليلًا، فابتسم ثم قال لأصدقائه ساخرًا:«يبدو أن والدته لم تعلمه كيف يتكلم، من الواضح أنه أبكم. ».
تعالت الضحكات الساخرة بينما ازدادت التجمعات أكثر وأكثر من طلاب وطالبات جاؤوا للمشاهدة بنية التسلية. بدأ ليوناردو يشعر بشيء من البرودة تغزو جسده، ارتجف جسده بعد سماع كلمات دانيل. لم يستطع مقاومة تلك النار التي اشتعلت في صدره رغم برودة جسده، ضحكاتهم كانت كابوسا بالنسبة له ولاحت أمامه خيالات أولئك الأشخاص الذين سخروا منه منذ الطفولة. عندما كان الشباب الذين يكبرونه بسنوات عدة يتعدون عليه بهدف التسلية، لم يكن له أحد يحميه من شرورهم كما أنه كان ضعيفًا لا حول له ولا قوة. هذا ما يفعله البشر، يبحثون عن الشخص الضعيف حتى يسحقوه حتى يشبعوا وحشيتهم ويشعروا بعزة النفس بسحق شخص بلا حول وقوة، ولكنه لم يعد ضعيفًا منذ تعلم كيف يرد حقه بيده، لم يعد ضعيفًا أبدًا، ولكن لماذا يتعدون عليه دومًا؟ أما زال ضعيفًا بالنسبة للجميع ولا أحد يقف خلفه لحمايته؟ لكنه ليس بحاجة لمن يقف خلفه ويدافع عنه؛ هو قوي، قوي جدًّا. ذِكر والدته على ألسنتهم من جديد جعل غضبه يشتد أكثر، نظر إلى وجه دانيل وبدا له مألوفًا. إنه ذلك الشاب الذي كان معه في معسكرات التدريب، كان يعتدي عليه دومًا ويسخر منه، إنه جوزيف الذي أذله دومًا وحرمه من رؤية والدته، حرمه من حق أي طفل يرغب بالعيش مع والديه. رأى ماضيه الذي لم يستطع التخلص منه حتى أصبح حاضره ومستقبله، ربما كان من الطبيعي أن ينهار في هذه اللحظة وقد هاجمته ذكريات الماضي المؤلمة لتحاصره في زاوية لا مفر منها. بينما كانت الضحكات تتعالى أكثر وأكثر والوجوه تزداد مع مرور الثواني، انتفض ليوناردو من مكانه دون سابق إنذار ثم أمسك دانيل من ياقة قميصه. تجمد الجميع مكانه وقد اختفت الأصوات وعمّ السكون في المكان، أصيب الجميع بالذهول وهم يطالعون رد فعل ليوناردو المفاجئ بينما حدق دانيل به بعدم تصديق ودقات قلبه تضطرب. لم يستطع إخفاء توتره من تلك الحركة التي لم يتوقعها، نظر ليوناردو نحوه وعيناه تشتعلان غضبًا ثم قال:.
«أوقف تلك اللعبة السخيفة». ما لبث أن أنهى جملته حتى دفع دانيل نحو زملائه. لم يقف ليشاهد ملامح الدهشة على وجوههم بل غير مساره راحلًا بعيدًا عن ذلك التجمع السخيف.
لم يستطع دانيل أن يتحمل تلك الإهانة التي أُلحقت به أمام جميع طلاب وطالبات الجامعة. شعر بالغضب الشديد فاندفع يتبع ليوناردو وفور وصوله وضع يده على كتفه وشده نحوه، قبل أن يرفع يده لكمه ليوناردو لكمة أطرحته أرضًا. تقدم جاك بعد أن فشلت محاولاته بعدم التدخل فليس من الشجاعة أن يعتدي شخصان على شخص واحد، تقدم بغضب شديد وهو يقول:.
«أيها القذر الغريب، سأعلمك كيف تتعامل مع أسيادك». لم يبتر جملته تلك وهو يمد قبضته نحو وجه ليوناردو حتى أمسك بها وقام بلوي ذراعه خلف ظهره ودفعه نحو الأرض. كان هذا جرس الإنذار لزملاء دانيل فتقدموا جميعًا نحو ليوناردو محاولين الاعتداء عليه بالضرب، لكنه كان يصدهم فلا أحد منهم قد تلقى تدريبًا عسكريًا سنوات طويلة، كان أقواهم. وقبل أن تستمر تلك الحرب تقدم المدير يتجاوز تجمعات الطلاب يتبعه المشرف وبعض أساتذة الجامعة.
صرخ المدير عاقدًا حاجبيه بغضب شديد:«جميعكم إلى مكتبي حالًا. ».
طالع ليوناردو ساعة الجدار بتململ، لقد مرت ساعة على تلك المشاجرة وهو هنا في هذه الغرفة وحده ينتظر ما سيحصل. سمع بأنها غرفة احتجاز لكنه لم ينتبه أين ذهب دانيل وزملاؤه حتى، ولكن من الطبيعي ألا يتواجدوا جميعًا في المكان نفسه حتى لا تحدث كارثة أخرى. كانت الغرفة مخدومة بشكل كامل من حيث الاحتياجات، كتواجد براد مشروبات من كل الأنواع وثلاجة زجاجية تحتوي مأكولات بسيطة. فُتح باب الغرفة فجأة وظهر من ورائه رجل ببدلة أنيقة، كان متواجدًا مع المدير في الساحة. نظر نحو ليوناردو ثم قال:.
«حضر ولي أمرك وهو بانتظارك في مكتب المدير. ».
نهض ليوناردو من مكانه ثم اتجه نحو الباب ليغادر الغرفة بصحبة نائب المدير. لا بد أن يكون ألبرت غاضبًا جدًا منه وعلى الأرجح سيُعلم فيكتوريا بما حصل، شعر بوخزة في قلبه حال تذكره لما قد يحصل بسبب هذه المشاجرة فلقد أفسد المهمة منذ بدايتها وربما يخسر كل شيء بسبب تهوره ذاك. زفر بضيق وهو يعبر الممرات الضيقة وصولًا إلى مكتب المدير. كان الطابق الأخير من مبنى الجامعة لا يحوي شيئًا سوى الغرف المتعلقة بالإدارة، فلم يكن فسيحًا كما هو الحال في الطوابق الأخرى. دق نائب المدير الباب طالبًا إذنًا بالدخول وما إن تلقى الإذن حتى فتح الباب لليوناردو ثم همّ بالمغادرة. دخل ليوناردو الغرفة وعيناه تبحثان عن وجه ألبرت. وجده جالسًا مقابل مكتب المدير يتحدث إليه. نظر المدير نحوه ثم قال عاقدًا حاجبيه بانزعاج:.
«أعتقد بأنه من المشين استدعاء أولياء أموركم وأنتم في هذا السن، لكنكم إن أردتم التصرف كالأطفال فنحن مجبرون على النظر إليكم هكذا. ».
نظر ألبرت إلى ليوناردو نظرة تأنيب ثم قال موجهًا كلامه للمدير:«أعتذر بالنيابة عنه أستاذ، لعله يحتاج إلى الكثير من التوجيه بعد حتى ينضج». صمت قليلًا يرمق ليوناردو بانزعاج ثم أردف قائلًا: «هل تسمح لي بالتحدث معه على انفراد؟».
«نعم، بالتأكيد». أجابه المدير على الفور ثم همّ بالنهوض ومغادرة مكتبه كأنه يريد الانتقام من ليوناردو بتركه مع ألبرت ليواجه مصيره البائس.
شعر بأنه يسمع صوت دقات قلبه في أذنيه وهي تضطرب حتى شعر بالاختناق راغبًا بزفر أنفاسه حتى يُهدئ من اضطرابه، ولكن هذا لم يكن ممكنًا فهو ما زال يحاول المكابرة والظهور بقالب الشخص البارد الذي لا يكترث. «لقد أخبر فيكتوريا بكل تأكيد وسيعفيني من المهمة ويتخلص مني». كانت تلك الجملة تدور في رأسه دون توقف كلعنة لم تزُل. كان يراقب عينَيْ ألبرت الزرقاوين اللتين تابعتا حركة المدير وهو يعبر باب المكتب ويغلقه. حالما التقت عيناه عينَيْ ألبرت شعر كأن قلبه سقط من قفصه الصدري، كان في صدد محاولة فاشلة بالمحافظة على أنفاسه المضطربة. سيوبخه حتمًا ولا مجال للمناقشة، صمته هذا يدل على شيء واحد ألا وهو الغضب والاستياء؛ لقد خيب ظنه، ولكن ماذا عساه يفعل مع أولئك الشباب الذين قرروا إزعاجه دون سبب؟ لن يغفر تهوره أبدًا رغم هذا.
«أنت». قال ألبرت بشيء من الارتباك كأنه عجز عن النطق أو التعبير ثم أردف «لا أصدقك».
لكن فجأة، كاد ليوناردو لا يصدق عينيه وأذنيه، إنه ألبرت وقد انفجر ضاحكًا بطريقة هستيرية جدًا. لم تبد ضحكته تلك لليوناردو ضحكة ساخرة كضحكة جوزيف مثلًا، فهل من الممكن أن يكون ألبرت قد أصيب بالجنون كما حال جوزيف؟ عقد ليوناردو حاجبيه بانزعاج بسبب عدم فهمه لما يحدث أمامه تمامًا ثم قال:«ما الذي يضحك الآن؟ من المفترض أن توبخني؟».
لكن ما كان من ألبرت سوى أن استمر بالضحك أكثر محاولًا كبح صوت ضحكته بدفن وجهه بين كفيه.
«أرجوك، لا تسخر مني ألبرت، إن كنت تريد توبيخي وتوجيه الاتهامات لي فلا تتوقف. ».
حاول ألبرت السيطرة على ضحكته بعد ملاحظته توتر ليوناردو وانزعاجه من تصرفه هذا، قال ولا زالت الابتسامة تعلو وجهه وبعض الضحكات تهرب من بين شفتيه:«ولماذا أوبخك؟ لأنك أكثر شخصٍ مجنون رأيته في حياتي؟».
عقد ليوناردو حاجبيه باستغراب ثم قال:- ماذا تقصد؟
– رغم أنك الشخص الخطأ لمهمة فيكتوريا، إلا أنك الشخص المناسب لمهمتي أنا.
لم يكن ليوناردو يفهم أي شيء من كلمات ألبرت تلك حتى أنه كاد يجزم بأنه يسخر منه.
– أليست مهمتك هي مهمة فيكتوريا نفسها؟
– لا عزيزي، ليست نفسها، لكنها توصلني إلى رغباتي الخاصة فقط ولكنك رائع يا فتى. لقد حضر والدا الشابين هنا وقام المدير بمحاولة حل المشكلة معي بدلا من حلها معك لأنك أصبحت راعيًا المشاكل ورمزًا للعنف والوحشية.
قال وقد ظهرت ابتسامة على وجهه ثم أتبع: «توقعت أن أرى إصابات على وجهك كما هو الحال مع الشابين لكنك بطل، أنت استثنائي يا ليو».
«أفهم الآن أنك فخور بي؟» قال ليوناردو رافعًا حاجبيه باستغراب وابتسامة تعلو وجهه.
«بالطبع! هل اعتقدت أن تصرفي أمام المدير كان جادًّا؟ كنت أرغب بمجاراته فقط لا أكثر، لقد كنت في قمة السعادة وأنا أشعر بالانتصار، أشاهد ضحايا قريبي المبرحين ضربًا وملامح ذويهم المضطربة والغاضبة وأنا أجلس هنا كالملك ألعب دور ولي الأمر الصالح». أجابه بطريقة درامية ضاحكًا.
لقد حطم ألبرت كل توقعات ليوناردو برد فعله ذاك، لكنه سعيد لكون أحدهم يشعر بالفخر نحوه ويقدره كألبرت.
«ولكن إليك الأخبار السيئة، ». قال ألبرت مبتسمًا ثم أتبع: «واحد من الشابين يكون شقيق الفتاة التي تبحث عنها ووالدها كريه جدًا بالمناسبة، لكن ربما سيصبح أمر استدراجها إلى الموقع المطلوب صعبًا قليلًا».
فكر ليوناردو لحظة فيما سيحصل معه وكيف يجب عليه النجاح في تلك المهمة، فهو لا يستطيع الانضباط حتى في أول يوم له، كيف له أن ينجح؟
«ألبرت، هل تعتقد بأنني سأنجح في هذه المهمة؟».
حدق به ألبرت دقائق قليلة وهو يفكر متناسيًا سبب إلحاح ليوناردو على إنجاز تلك المهمة حالما تذكر والدته التي ينتظر تحريرها من سجن جوزيف فأجابه بجدية:«ستنجح، لكن إن تحكمت بتهورك أكثر. ».
كانت هذه إجابة متوقعة من ألبرت، لكن وعلى أي حال، تلك هي الحقيقة المرة.
كان أصدقاء فيوليت مجتمعين في مقهى الجامعة الداخلي بعد أن تعطلت محاضرات وقت الظهيرة بسبب ما حصل من فوضى وحضور أولياء الأمور. لم تكن هذه المرة الأولى التي تحدث فيها مشاجرات علنية كما حصل اليوم، لكن والدَيْ دانيل وجاك أكثر حدة من المعتاد بسبب حصول تلك المشكلة باسم الطالب الجديد الذي اشتهر بالغريب كونه شخص من عامة الشعب. لم تكن فيوليت تفهم تلك التفرقة الغريبة؛ ربما لأن والدتها لا تتحدث بتلك الأمور كثيرًا، أو ربما لأنها كانت ترتبك بشكل ملحوظ عند سؤال فيوليت في الصغر عن سبب تحدث بعض زملائها عن عامة الشعب بطريقة عنصرية ووصفهم بالهمجية. كانت ساندرا تتهرب من إجابة فيوليت؛ فهي نفسها لا تفهم الموضوع، لكنها خلقت في عالم منعزل عنهم فقط. كان الصمت يعم المكان على غير العادة، كان الجميع صامتًا بينما دانيل وجاك في حالة غضب شديدة، لكنهما لم يتكلما منذ خروجهما من مكتب المدير. لم تكن فيوليت تطيق الجلوس معهما؛ فرغم تعرضهما للضرب إلا أنهما المخطئان منذ البداية بسبب تعرضهما للشاب دون سبب واضح. ضرب جاك الطاولة بغضب قاطعًا الصمت ليقول وأنفاسه تتسارع بعصبية:.
«أقسم أنني سأحطم ذلك الوغد القذر، من يظن نفسه؟ يبدو بأن الكلاب بدأت بالتطاول على أسيادها، سيندم ذلك، ». لكنه لم يستطع إكمال شتائمه تلك عندما صرخت به فيوليت وقد نهضت من على كرسيها:«توقف جاك، كف عن هذا التكبر، تعلم درسًا مما حدث على الأقل. ».
رفع جاك حاجبيه بسخرية بينما عُلقت أنظار الجميع على فيوليت وقد استنكروا غضبها وانفعالها.
– ما الدرس الذي ترغبين مني تعلمه؟ أن أسمح للحثالة بالتطاول على وإهانتي أمام الجميع؟
– وهل ظننت أن تقابِل صمته أمام إهانتكم إياه، ويبقى هو كحشرة مسكينة صامتًا لأنه ببساطة لا ينتمي للطبقة المخملية السخيفة نفسها؟
حدق جاك بها بغضب شديد وجسده ينتفض أمام كلماتها التي لعبت على وتره الحساس وجعلته يفقد أعصابه، حدق الجميع بها باستغراب كأنها شخص لا ينتمي إليهم. انتفض جاك من مكانه ثم صرخ بها وعيناه لم تفارق عينيها:«أقسم لو لم تكوني فتاةً لحطمتك ضربًا الآن وأفرغت كل غضبي من ذلك الشاب الوغد. ».
فور انتهاء جاك من جملته الفظة تلك انتفض دانيل من مكانه كوحش انقض على فريسته ثم أمسكه من ياقة قميصه وعيناه تشتعل غضبًا وغيظًا مما سمعه توًّا، فقال لجاك هامسًا:«تذكر بأنك تتحدث مع شقيقتي، فالتزم حدودك يا هذا». أفلت قميصه بعنف ثم التفت مغادرًا مقعده وقال باستسلام:«فيوليت على حق، فنحن لم نكن نتحدث إلى صنم، لقد بالغنا في لعبتنا تلك. ».
«نعم، لقد بالغتم فعلًا». قالت آنجل فنظر نحوها الجميع باستغراب شديد. شيء لا يصدق فعلا؛ لم يكن أحدهم ليصدق أذنيه فآنجل دائمًا ما تكون فظة ومتكبرة مع من هم من طبقتها، فكيف لها أن تتعاطف مع ذلك الشاب؟ شعرت آنجل بالارتباك من نظرات الجميع وخشيت أن يتداولوا الأقاويل السخيفة عنها فقالت مصححة: «أعني أن استخدام الضرب كان أمرًا مبالغًا فيه، برأيي، انسوا الأمر وابدؤوا من جديد كأن شيئًا لم يكن».
كانت هذه المرة الأولى التي تتحدث بها آنجل بطريقة عاقلة فأثارت فضول الجميع حول ما جعلها تتصرف بهذه الطريقة.
جلست جانيت إلى جانب صديقتها آنجل في السيارة. حدقت جانيت بآنجل بشيء من الاستغراب ثم قررت التجرؤ والتحدث إليها.
«آنجل، أنا لم أقتنع بلعبتك تلك».
نظرت آنجل نحوها بشيء من التوتر بنظرات ثاقبة ثم سألت:- ماذا تقصدين؟
– أعني محاولتك الدفاع عن ذلك الشاب.
ابتسمت آنجل بسخرية ثم قالت:«ألم تلاحظي أنت دفاع فيوليت الحاد عنه؟ وكيف أنها كادت تتشاجر مع زميلها جاك من أجله؟».
صمتت جانيت دقائق محاولةً فهم مقصد صديقتها، ثم قالت بعد أن ابتسمت ابتسامة جانبية:«وما الجديد؟ فيوليت تتصرف هكذا دائمًا؛ تحب أن تكون مختلفة وأن تخالف الجماعة. ».
رفعت آنجل حاجبيها مستنكرةً إجابة صديقتها، ثم قالت وقد عادت الابتسامة تعلو وجهها من جديد:«لا أحد يفهم ما تخفيه تلك الخبيثة سواي، ألم تفهمي أنها معجبة به؟ إنها تفعل كل هذا لكي يُقبل من قبل الجميع وتستطيع التقرب منه كما تشاء، وحتى أنها ربما تضمه إلى مجموعتنا حتى يصبح شخصًا ذا قيمة ولا تتعرض للانتقادات. ».
ابتسمت جانيت من تحليلات صديقتها المجنونة تلك، فقالت:- ما الذي يجعلها تعجب به وهي رأته توًّا؟ ثم وإن افترضنا أن الأمر صحيح، فهل تحاولين مساعدتها بجعله مقبولًا من الجميع؟
– ربما تكون قابلته من قبل وتحاول الآن التقرب منه، ثم إنني لا أساعدها بل أحاول تدميرها فحسب.
عقدت جانيت حاجبيها باستنكار دون أن تفهم خطط آنجل ثم قالت:«لا أفهم، ما الذي يجعلك تفكرين بها لهذه الدرجة؟ كل أفكارك تحوم حول فيوليت وكيفية تدميرها!».
صكت آنجل على أسنانها بغضب وهي تقول:«لأنني أكرهها، أكرهها بشدة وأرغب بالتخلص منها. أكره كيف يفضلها الجميع مع أنها فتاة نكرة ليست بمستوى جمالي وأناقتي، بل متصنعة تحاول أن تكون الشخص المثالي، اللطيف والمحبوب لدى الجميع، إنها كريهة وسخيفة جدًا، لا أتحملها أبدًا. ».
شعرت جانيت بحجم جنون العظمة لدى آنجل التي تغار من أي أحد ينافسها، إنها لا تقبل حتى بمنافسة شريفة، بل تسعى لإيقاع كل منافسيها بخبث.